فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فإن قيل: لِمَ لَمْ يقل تعالى: وإلى جهنم يحشرون؟
أجيب: بأنه أسلم منهم جماعة كأبي سفيان بن حرب والحرث بن هشام وحكيم بن حزام، بل ذكر أن الذين ثبتوا على الكفر يكونون كذلك.
{ليميز الله الخبيث} أي: الفريق الكافر {من الطيب} أي: من الفريق المؤمن {ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعًا} أي: يجمعه متراكمًا بعضه على بعض كقوله تعالى: {كادوا يكونون عليه لبدًا}.
أي: لفرط ازدحامهم، وقيل: ليميز المال الخبيث الذي أنفقه الكافر على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم من المال الطيب الذي أنفقه المؤمن في جهاد الكفار كإنفاق أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما في نصرة النبيّ صلى الله عليه وسلم فيركمه جميعًا {فيجعله في جهنم} في جملة ما يعذبون به كقوله تعالى: {فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم}.
الآية، واللام على هذا متعلقة بتكون من قوله تعالى: {ثم تكون عليهم حسرة} وعلى الأوّل متعلقة بيحشرون أو يغلبون.
وقرأ {ليميز} حمزة والكسائيّ بضم الياء الأولى وفتح الميم وتشديد الياء الثانية مع الكسر والباقون بفتح الياء الأولى وكسر الميم وسكون الياء الثانية، وقوله تعالى: {أولئك} إشارة إلى الذين كفروا {هم الخاسرون} أي: الكاملون في الخسران؛ لأنهم خسروا أنفسهم وأموالهم.
ولما بيّن تعالى ضلالهم في عباداتهم البدنية والمالية أرشدهم إلى طريق الصواب.
فقال: {قل} يا محمد {للذين كفروا} كأبي سفيان وأصحابه {إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} أي: قل لأجلهم هذا القول وهو أن ينتهوا عن الكفر وقتال النبيّ صلى الله عليه وسلم يغفر لهم ما قد سلف من ذلك ولو كان بمعنى خاطبهم به لقيل: إن تنتهوا يغفر لكم {وإن يعودوا} أي: إلى الكفر ومعاداة النبيّ صلى الله عليه وسلم {فقد مضت سنة الأوّلين} أي: بإهلاك أعدائه ونصر أنبيائه وأوليائه وأجمع العلماء على أنّ الإسلام يجبّ ما قبله، واختلفوا هل الكافر الأصلي مخاطب بفروع الشريعة؟ وهل يسقط عن المرتدّ ما مضى في حال ردّته كالكافر الأصلي كما هو ظاهر الآية؟ وهل الردّة تحبط ما مضى من العبادات قبلها، ذهب أصحاب الشافعيّ رضي الله تعالى عنه إلى أنه مخاطب بدليل قوله تعالى: {ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين} الآية، وأنّ المرتدّ لا تسقط عنه العبادات الفائتة في الردّة تغليظًا عليه، وأنّ الردّة لا تحبط ما مضى، وقد تقدّم الكلام على ذلك في المائدة، وعن يحيى بن معاذ أنه قال: توحيد لم يعجز عن هدم ما قبله من كفر أرجو أن لا يعجز عن هدم ما بعده من ذنب.
ولما بيّن تعالى أنّ هؤلاء الكفار إن انتهوا عن كفرهم حصل لهم الغفران، وإن عادوا فهم متوعدون سنة الأوّلين أتبعه بالأمر بقتالهم إذا أصرّوا، فقال تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} أي: شرك كما قاله ابن عباس، وقال الربيع: حتى لا يفتن أحدكم عن دينه؛ لأنّ المؤمنين كانوا يفتنون عن دين الله في مبدأ الدعوة، فافتتن من المسلمين بعضهم، وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى الحبشة، وفتنة ثانية وهو أنه لما بايعت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة توامرت قريش أن يفتنوا المؤمنين بمكة عن دينهم، فأصاب المؤمنين جهد شديد، فأمر الله تعالى بقتالهم حتى تزول هذه الفتنة {ويكون الدين كله} خالصًا تعالى وحده لا يعبد غيره {فإن انتهوا} عن الكفر {فإن الله بما يعملون بصير} أي: فيجازيهم به.
{وإن تولوا} عن الإيمان {فاعلموا أنّ الله مولاكم} أي: ناصركم ومتولي أموركم {نعم المولى} هو فإنه لا يضيع من تولاه {ونعم النصير} أي: الناصر، فلا يغلب من ينصره فمن كان في حماية هذا المولى وفي حفظه وكفايته كان آمنًا من الآفات مصونًا عن المخالفات. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)}
أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار هذا المعنى.
وسواء قاله بهذه العبارة أو غيرها.
قال ابن عطية: ولو كان كما قال الكسائي إنه في مصحف عبد الله بن مسعود {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن تَنتَهُواْ} يعني: بالتاء المثناة من فوق، لما تأدّت الرسالة إلا بتلك الألفاظ بعينها.
وقال في الكشاف: أي قل لأجلهم هذا القول، وهو {إِن يَنتَهُواْ} ولو كان بمعنى خاطبهم، لقيل إن تنتهوا يغفر لكم، وهي قراءة ابن مسعود، ونحوه {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11] خاطبوا به غيرهم لأجلهم ليسمعوه، أي إن ينتهوا عما هم عليه من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتاله بالدخول في الإسلام {يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} لهم من العداوة. انتهى..
وقيل معناه: إن ينتهوا عن الكفر، قال ابن عطية: والحامل على ذلك جواب الشرط ب {يغفر لهم ما قد سلف}، ومغفرة ما قد سلف لا تكون إلا لمنته عن الكفر.
وفي هذه الآية دليل على أن الإسلام يجبّ ما قبله.
{وَإِن يَعُودُواْ} إلى القتال والعداوة أو إلى الكفر الذي هم عليه، ويكون العود بمعنى الاستمرار {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأولين} هذه العبارة مشتملة على الوعيد، والتهديد والتمثيل بمن هلك من الأمم في سالف الدهر بعذاب الله، أي قد مضت سنة الله فيمن فعل مثل فعل هؤلاء من الأوّلين من الأمم أن يصيبه بعذاب، فليتوقعوا مثل ذلك.
{وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي: كفر.
وقد تقدّم تفسير هذا في البقرة مستوفى {فَإِنِ انْتَهَوْاْ} عما ذكر {فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} لا يخفى عليه ما وقع منهم من الانتهاء {وَإِن تَوَلَّوْاْ} عما أمروا به من الانتهاء {فاعلموا} أيها المؤمنون {أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ} أي: ناصركم عليهم {نِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير} فمن والاه فاز ومن نصره غلب.
وقد أخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأولين} قال: في قريش وغيرها يوم بدر، والأمم قبل ذلك.
وأخرج أحمد، ومسلم، عن عمرو بن العاص، قال: لما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: ابسط يدك فلأبايعك، فبسط يمينه فقبضت يدي، قال: «ما لك؟» قلت: أردت أن أشترط، قال: «تشترط ماذا؟» قلت: أن تستغفر لي، قال: «أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحجّ يهدم ما كان قبله» وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الإسلام يجبّ ما قبله، والتوبة تجبّ ما قبلها» وقد فسر كثير من السلف قوله تعالى: {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأولين} بما مضى في الأمم المتقدّمة من عذاب من قاتل الأنبياء، وصمم على الكفر.
وقال السديّ ومحمد بن إسحاق: المراد بالآية يوم بدر.
وفسر جمهور السلف الفتنة المذكورة هنا بالكفر.
وقال محمد بن إسحاق: بلغني عن الزهري عن عروة ابن الزبير، وغيره من علمائنا {حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} حتى لا يفتن مسلم عن دينه. اهـ.

.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ} أي عَنِ الْإِسْلَامِ وَاتِّبَاعِ خَاتَمِ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فَسَيُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ صَدًّا وَفِتْنَةً وَقِتَالًا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً وَنَدَمًا وَأَسَفًا، لِذَهَابِهَا سُدًى، وَخُسْرَانِهَا عَبَثًا، إِذْ لَا يُعْطِيهِمْ مِمَّنْ أَرَادَ اللهُ هِدَايَتَهُمْ أَحَدٌ ثُمَّ يُغْلَبُونَ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، وَيَنْكَسِرُونَ الْكَرَّةَ بَعْدَ الْكَرَّةِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ أَيْ: يُسَاقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَيْهَا دُونَ غَيْرِهَا كَمَا أَفَادَهُ تَقْدِيمُ الظَّرْفِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ. هَذَا إِذَا أَصَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ حَتَّى مَاتُوا عَلَيْهِ، فَيَكُونُ لَهُمْ شَقَاءُ الدَّارَيْنِ وَعَذَابُهُمَا. وَمِنَ الْعِبْرَةِ فِي هَذَا لِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ أَوْلَى مِنَ الْكُفَّارِ بِبَذْلِ أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ لِأَنَّ لَهُمْ بِهَا مِنْ حَيْثُ جُمْلَتِهِمْ سَعَادَةَ الدَّارَيْنِ، وَمِنْ حَيْثُ أَفْرَادِهِمُ الْفَوْزَ بِإِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، هَكَذَا كَانَ فِي كُلِّ زَمَانٍ قَامَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ بِحُقُوقِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، وَهَكَذَا سَيَكُونُ، إِذَا عَادُوا إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُهُمُ الصَّالِحُونَ. وَالْكُفَّارُ فِي هَذَا الزَّمَانِ يُنْفِقُونَ الْقَنَاطِيرَ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الْأَمْوَالِ لِلصَّدِّ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَفِتْنَةِ الضُّعَفَاءِ مِنَ الْعَوَامِّ، بِجِهَادٍ سِلْمِيٍّ، أَعَمَّ مِنَ الْجِهَادِ الْحَرْبِيِّ، وَهُوَ الدَّعْوَةُ إِلَى أَدْيَانِهِمْ، وَالتَّوَسُّلُ إِلَى نَشْرِهَا بِتَعْلِيمِ أَوْلَادِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَدَارِسِهِمْ، وَمُعَالَجَةِ رِجَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ فِي مُسْتَشْفَيَاتِهِمْ.
وَالْمُسْلِمُونَ مُوَاتُونَ، يُرْسِلُونَ أَوْلَادَهُمْ إِلَيْهِمْ وَلَا يُبَالُونَ مَا يَعْمَلُونَ ذَلِكَ {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} [5: 58].
{لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} يَعْنِي أَنَّ اللهَ تَعَالَى كَتَبَ النَّصْرَ وَالْغَلَبَ وَالْفَوْزَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ، وَالْخِذْلَانَ وَالْحَسْرَةَ لِمَنْ يُعَادِيهِمْ وَيُقَاتِلُهُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ لِلصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ الَّذِي اسْتَقَامُوا عَلَيْهِ، وَجَعَلَ هَذَا جَزَاءَ كُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ مَا دَامَا عَلَى حَالِهِمَا، فَإِذَا غَيَّرَا مَا بِأَنْفُسِهِمَا غَيَّرَ اللهُ مَا بِهِمَا. جَعَلَ هَذَا جَزَاءَهُمَا فِي الدُّنْيَا، وَجَعَلَ جَهَنَّمَ مَأْوًى لِلْكُفَّارِ وَحْدَهُمْ فِي الْآخِرَةِ؛ لِأَجْلِ أَنْ يُمَيِّزَ الْكُفْرَ مِنَ الْإِيمَانِ، وَالْحَقَّ وَالْعَدْلَ مِنَ الْجَوْرِ وَالطُّغْيَانِ، فَلَنْ يَجْتَمِعَ فِي حِكْمَتِهِ سُبْحَانَهُ الضِّدَّانِ، وَلَا يَسْتَوِي فِي جَزَائِهِ النَّقِيضَانِ {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [5: 100] الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ الْمَعْنَوِيَّانِ فِي حُكْمِ الْعُقَلَاءِ وَالْفُضَلَاءِ، كَالْخَبِيثِ وَالطَّيِّبِ الْحِسِّيَّيْنِ فِي حُكْمِ سَلِيمِي الْحَوَاسِّ وَلاسيما الشَّمَّ. وَقَدْ سَبَقَ لَنَا تَحْقِيقُ هَذَا الْمَعْنَى فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَفِي تَفْسِيرِ {مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [3: 179] قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (يُمَيِّزَ) بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّمْيِيزِ، وَقَرَأَهَا الْجُمْهُورُ بِالتَّخْفِيفِ. وَالْمُرَادُ بِالْمَيْزِ وَالتَّمْيِيزِ مَا كَانَ بِالْفِعْلِ وَالْجَزَاءِ كَمَا قُلْنَا لَا بِالْعِلْمِ فَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَهَذَا التَّمْيِيزُ الْإِلَهِيُّ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ يُوَافِقُ مَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ هَذَا الْعَصْرِ بِسُنَّةِ الِانْتِخَابِ الطَّبِيعِيِّ، وَبَقَاءِ أَمْثَلِ الْأَمْرَيْنِ الْمُتَقَابِلَيْنِ وَأَصْلَحِهِمَا. وَسُنَنُ اللهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاحِدَةٌ كَمَا قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَّالِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَإِنْ جَهِلَ ذَلِكَ الْخَبِيثُونَ الْمُتَكَلِّمُونَ عَلَى الشَّفَاعَاتِ وَالْمُغْتَرُّونَ بِالْأَلْقَابِ الدِّينِيَّةِ مِنْ كُلِّ مِلَّةٍ وَأُمَّةٍ. فَالْخَبِيثُ فِي الدُّنْيَا خَبِيثٌ فِي الْآخِرَةِ لَا يَنْفَعُهُ شَيْءٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا أَيْ وَيَجْعَلُ سُبْحَانَهُ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ مُنْضَمًّا مُتَرَاكِبًا عَلَى بَعْضٍ بِحَسَبِ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي اجْتِمَاعِ الْمُتَشَاكِلَاتِ، وَانْضِمَامِ الْمُتَنَاسِبَاتِ، وَائْتِلَافِ الْمُتَعَارِفَاتِ، وَاخْتِلَافِ الْمُتَنَاكِرَاتِ، يُقَالُ: رَكَمَهُ إِذَا جَمَعَ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ، وَمِنْهُ سَحَابٌ مَرْكُومٌ فَيَجْعَلُهُ فِي جَهَنَّمَ يَجْعَلُ أَصْحَابَهُ فِيهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ الْتَامُوا الْخُسْرَانَ وَحْدَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ خَسِرُوا أَمْوَالَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ.
جَاءَ مِصْرَ الْقَاهِرَةَ مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ صَاحِبُ صَحِيفَةٍ سُورِيَّةٍ دَوْرِيَّةٍ مِنْ دُعَاةِ الْإِلْحَادِ الْمُتَفَرْنِجِينَ، فَأَقَامَ فِيهَا أَيَّامًا قَلَائِلَ اسْتَحْكَمَتْ فِيهَا لَهُ مَوَدَّةُ أَشْهَرِ مَلَاحِدَةِ مِصْرَ، وَدُعَاةِ الزَّنْدَقَةِ وَالْإِبَاحَةِ فِيهَا، فَعَادَ يُنَوِّهُ بِهِمْ، وَيَنْشُرُ دِعَايَتَهُمْ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُمْ دُعَاةُ التَّرَقِّي وَالْعُمْرَانِ، بِالدَّعَايَةِ إِلَى تَجْدِيدِ ثَقَافَةٍ لِمِصْرَ تَخْلُفُ مَا كَانَ لَهَا مِنْ ثَقَافَةِ الْعَرَبِ وَالْإِسْلَامِ، وَالْحَقُّ أَنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ هَدَّامُونَ لِلْعَقَائِدِ وَالْفَضَائِلِ وَجَمِيعِ مُقَوِّمَاتِ الْأُمَّةِ وَمُشَخِّصَاتِهَا، وَلَيْسُوا بِأَهْلٍ لِبِنَاءِ شَيْءٍ لَهَا، إِلَّا إِذَا سُمِّيَتِ الزَّنْدَقَةُ، وَإِبَاحَةُ الْأَعْرَاضِ، وَتَمْهِيدُ السَّبِيلِ لِاسْتِعْبَادِ الْأَجَانِبِ لِأُمَّتِهِمْ بِنَاءُ مَجْدٍ لَهَا. وَقَدْ ذَكَّرَنِي ذَلِكَ رَجُلًا مِنْ قَرْيَةٍ صَالِحَةٍ مَرَّ بِهِ رَجُلٌ مِنْ مَعَارِفِهِ كَانَ فِي إِحْدَى الْمُدُنِ فَطَفِقَ يَسْأَلُهُ عَنِ الْمَسَاجِدِ وَمَدَارِسِ الْعِلْمِ فِيهَا، وَعَنِ الصَّالِحِينَ مِنْ أَهْلِهَا، فَأَجَابَهُ الرَّجُلُ: أَعَنْ هَذَا تَسْأَلُ مِثْلِي؟ سَلْنِي عَنْ أَهْلِ الْحَانَاتِ وَالْمَوَاخِيرِ، فَإِنَّنِي بِهَا وَبِهِمْ عَلِيمٌ خَبِيرٌ {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [6: 129].
{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى حَالَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ وَصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَقِتَالِ رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَمَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَفَّى عَلَيْهِ بِبَيَانِ حُكْمِ الَّذِينَ يَرْجِعُونَ عَنْهُ، وَيَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الْأَنْفُسَ صَارَتْ تَتَشَوَّفُ إِلَى هَذَا الْبَيَانِ، وَتَتَسَاءَلُ عَنْهُ بِلِسَانِ الْحَالِ أَوِ الْمَقَالِ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا أَيْ: قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ، أَيْ لِأَجْلِهِمْ وَفِي شَأْنِهِمْ، فَاللَّامُ لِلتَّبْلِيغِ: إِنْ يَنْتَهُوا عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عُدْوَانِكَ وَعِنَادِكَ بِالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَالْقِتَالِ لِأَوْلِيَائِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ مِنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْ غَيْرِهِ مِنَ الذُّنُوبِ، يَغْفِرُ اللهُ لَهُمْ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ فَلَا يُعَاقِبُهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ، وَيَغْفِرُ لَهُمُ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ مَا يَخُصُّهُمْ مِنْ إِجْرَامِهِمْ فَلَا يُطَالِبُونَ قَاتِلًا مِنْهُمْ بِدَمٍ، وَلَا سَالِبًا أَوْ غَانِمًا بِسَلَبٍ أَوْ غُنْمٍ.
وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ {إِنْ تَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَكُمْ} بِالْخِطَابِ، رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: فَلَمَّا جَعَلَ اللهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَدَكَ أُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ فَقَبَضْتُ يَدِي. قَالَ: مَا لَكَ؟ قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ. قَالَ: تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟ قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي، قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ يَا عَمْرُو أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ وَإِنْ يَعُودُوا إِلَى الْعَدَاءِ وَالصَّدِّ وَالْقِتَالِ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَيْ: تَجْرِي عَلَيْهِمْ سُنَّتُهُ الْمُطَّرِدَةُ فِي أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ عَادُوا وَقَاتَلُوهُمْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فِي قُرَيْشٍ وَغَيْرِهَا يَوْمَ بَدْرٍ وَالْأُمَمِ قَبْلَ ذَلِكَ، أَقُولُ: وَهِيَ السُّنَّةُ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا بِمِثْلِ قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [58: 20- 21] وَقَوْلِهِ: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [40: 51] فَإِضَافَةُ السُّنَّةِ إِلَى الْأَوَّلِينَ، لِمُلَابَسَتِهَا لَهُمْ وَجَرَيَانِهَا عَلَيْهِمْ.